“القبطان” بطل ينهي حكاية ضياع طويلة في بحر العرب

قشن برس- صالح الحجار السقطري

بعد 30 ساعة من السفر المتواصل في بحر العرب، استيقظ ركاب سفينة المنار على فاجعة تعطل المحرك بالقرب من سواحل أرخبيل سقطرى حيث تتجه رحلتهم.

الرحلة التي كادت أن تصل إلى وجهتها لم يكتب لها الوصول بعد أن تعطل “دينامو” السفينة، وتكون على موعد مع مسار جديد تتولى فيه الرياح والأمواج العاتية قيادة السفينة نحو وجهات متعددة وتختزل وجع جديد لأبناء الأرخبيل مع البحر.

يسرد “سعد الغتناني” أحد ركاب سفينة “المنار” لـ “قشن برس” رحلة الضياع في عرض البحر التي استمرت 13 يوم بمواقفها المحزنة والغريبة والعزيمة والإصرار التي تحلى بها الركاب حتى لحظة الفرج والعودة بسلام.

نقطة انطلاق الرحلة بدأت من سواحل مدينة قصيعر التابعة لمحافظة حضرموت في تمام الساعة الثانية والنصف ظهرا، في 16 مايو(أيار) الماضي، عندما أبحر القبطان بالسفينة الصغيرة التي تحمل على متنها تسعة عشر راكبا بينهم امرأتان وطفلان في السادسة من العمر.. الجميع يتذكر حوادث الضياع في ظلمات البحر.

مرت حوالي 4 ساعات من السفر في عرض البحر وقبل أن تتوارى الشمس عن الأنظار، كان الركاب يتبادلون حكايات وقصص تحدث في البحار ومنها تلك التي وقعت في بحر العرب لأبناء سقطرى خلال السنوات الماضية.

ويفيد الغتناني وهو أحد الكوادر الطبية في “سقطرى” سارعت إلى تغيير الحديث المشحون بالخوف لدى الركاب وحث الجميع على التفاؤل، والتفكر في عظمة البحر وجبروت الخالق.

وفي الوقت الذي كانت فيه السفينة الصغيرة المخصصة للاصطياد تصارع الأمواج العاتية، بدأت الشمس تضفي على السماء لونا أحمر بهيًّا ينذر باقتراب لحظة الغروب.. كان السكو حينها يسيطر على الجميع وشعورهم واحد هو: “الوصول إلى البر بخير وسلام”.

أسدل الستار عن الغروب وبدأت السماء تتزين بالنجوم والكويكبات الصغيرة، الظلام ينتشر في البحر الطويل ولا تسمع سوى أصوات الأمواج، فيما الرياح تزحف نحو السفينة الصغيرة التي يبذل قبطانها كل ما لديه من خبرة وقوة في القيادة وسط البحر.

ومع عتمة الليل والرياح الباردة بدأ النعاس يهاجم الركاب واستطاع النوم يغلب البعض منهم، أما البعض الآخر ظل بقرب الكابتن حتى الساعة الرابعة فجرا، حينها بدأ الكابتن يتحدث عن قرب لحظات الوصول إلى سقطرى.

لكن لحظة الفرح تلك تحولت إلى فاجعه كبيرة، فقد استيقظ الجميع على دخول الماء إلى ظهر السفينة بسبب الأمواج العاتية، الأمر الذي أحدث خللا في دينامو محرك السفينة.

وبينما كان الجميع في حالة خوف وهلع سارع “الغتناني” نحو هاتف الثريا الموجود بحوزة الكابتن واتصل بمحافظ سقطرى رمزي محروس وأخبره أن السفينة معطلة على بعد 20 ميلا من الأرخبيل.

يفيد الغتناني أن المحافظ “محروس” أرسل فريق للبحث عن السفينة، وانتظر الجميع حتى الساعة الثانية عشرا ظهرا والفريق لم يتمكن من الوصول إلى مكانهم، الأمر الذي دفهم نحو رفع الشراع الذي سيقود السفينة حيث تتجه الرياح.

الصدمة كانت كبيرة لدى الجميع وفقا لـ “الغتناني” لكن التدفق المتزايد من الأمواج إلى داخل السفينة، دفع الجميع للتحرك نحو إنقاذ السفينة الأمل الوحيد للجميع في البقاء.

اتفق الجميع على رمي المواد الموجودة على متن السفينة إلى داخل البحر لتخفيف حمولتها ومنع تدفق  الأمواج إلى داخلها، وبعد أن ارتفعت وأصبحت آمنة من وصول الماء إليها شرع الجميع بغرف الماء الموجود داخل السفينة.

احمرت العيون وطغى على أصحابها الهلع وفقدان الأمل، وانهمرت الدموع وتصاعدت حدة البكاء عندما تسابق الجميع نحو الألواح والأوعية البلاستيكية المفرغة من الزيت كأدوات للسباحة وأمل ضعيف قد يقودهم نحو النجاة.

وبينما حصل الجميع على أدوات السباحة، ظل الشاب محمد يبكي بالقرب من الغتناني عابس الوجه وعيناه تذرف الدموع، نظر الغتناني إليه فهمس بأذنه “ليس لدي دبة فارغة أو لوح يساعدني على السباحة”.

يقول “الغتناني” سارعت لمواساة ابن خالي ومسح دموعه قائلا” سنتقاسم السباحة على اللوح الذي معي، ولن نترك بعض حتى ننجو أو نموت سويا”.

ظل الشراع يبحر بالسفينة يمنة ويسرة، والركاب قد سلموا أمرهم لربهم والجميع يسبح للرحمن ويطلب منه تفريج الكربة والمحنة التي حلت بهم، ومرت الأيام حتى جاء اليوم السادس وفيه تحقق القبطان من دخول السفينة في المناطق الساحلية التي تفصل محافظة المهرة عن سلطنة عمان بحوالي 70 ميلا.

وفي ظلمات البحر الواسعة كان الركاب البالغ عددهم 19 يتناولون بضع حبات من التمر وقليلا من الماء لمكافحة الجوع والدخول في مرحلة المجاعة والموت.

وبينما كان الكبار يأكلون التمر ويشربون الماء، فقد كان للأطفال القليل من الدقيق لدى أحدهم خصص بمقدار رغيف فقط لكل واحد منهم في الصباح وآخر في الليل.

يفيد الغتناني في سرده أن الرياح استمرت في قيادة السفينة يمنة ويسرة، والجميع يشكو من الجوع وينظرون إلى البحر وأمواجه المتلاطمة وفجأة أكرمهم الله بسلحفاة في اليوم العاشر وسط البحر أكلوا منها خلال يومين.

ومع طلوع فجر اليوم الحادي عشر كان الركاب على موعد مع فرحة كبيرة وأمل جديد ينذر باقتراب موعد النجاة، عندما أعلن الكابتن تمكنه من إصلاح العطل الذي استمر خلال تلك الأيام يقضي معظم وقته في محاولة إصلاحه، واشتغل حينها المحرك وأبحرت السفينة ولكن بسرعة ضعيفة.. كانت تقطع اليوم مسافة لا تزيد عن ثلاثة أميال.

قطعت السفينة بضعة أميال خلال يومين حتى جاء صباح يوم الثالث عشر، وبينما كان الجميع سارحا في الخيال والسكون يعم السفينة التقط هاتف الثريا شبكة الاتصال، سارع الكابتن إلى إجراء الاتصال بوزير الثروة السمكية فهد كفاين، وشيخ سقطرى “عيسى سالم بن ياقوت اللذين بدورهما رتبا لإنقاذ الركاب بعد أن تحققا أنهم في مكان يبعد عن سواحل المهرة سبعين ميلا.

وأجرى محافظ سقطرى والوزير كفاين اتصالات هاتفية مع سلطات المهرة وجرى التنسيق بشكل عاجل وتم إرسال ثلاثة قوارب باتجاه مكان السفينة واستطاعت الوصول إلى المكان، وحملت الركاب نحو أحد سواحل المهرة.

وكان الجميع على موعد مع ميلاد جديد بعد مخاض عسير في ظلمات البحر، بطلها قبطان السفينة الذي نجح في اصلاح محرك السفينة بعد 13 يوم من العزيمة والإصرار.

اترك تعليقا