قشن برس-خاص
كانت الساعة التاسعة صباحا عندما خرجنا من مدينة الغيضة عاصمة محافظة “المهرة”، متجهين نحو مدينة “قشن” جوهرة التراث اليمني ولؤلؤة بحر العرب.
في الطريق الساحلي الذي قطعناه وجدنا الكثير من المناظر الجميلة، وكانت نسمات البحر الباردة تلطف الجو كلما اشتدت حرارة الشمس.
ولم يكن الخط الساحلي الذي سلكناه على ما يرام، فالأعاصير التي ضربت المحافظة خلال الفترات الماضية، مزقت الكثير من أوصالها وأصبحت الحفريات الموجودة في أماكن كثيرة تشكل خطورة بالغة على حياة المسافرين.
الشوق لرؤية المدينة ومعرفة مخزونها التاريخي العريق، كان بالنسبة لنا دافعا كبيرا يساعدنا على تحمل مخاطر الطريق وحرارة الشمس.
وكلما اقتربنا من المدينة رويدا رويدا، تتجلي أمامنا لوحة تاريخية بديعة، تتزين بالتراث العريق وجمال الطبيعة الساحرة.
وانت تتجول داخل المدينة يتبادر إلى مخيلتك تاريخ سلاطينها وعظمة الفن المعماري الذي شيدوه، وفي حصونها التاريخية تجد حكمة الأجداد وتفننهم في تخييطها لتكون الحارس الأمين للمدينة من هوس الأطماع ووحشية الغزاة.
مكانها الاستراتيجي وجبالها الشاهقة أهلتها لتكون عاصمة سلاطين الدولة العفرارية التي حكمت المهرة وسقطرى خلال 9 قرون.
وخلال تلك الحقبة تصدت للعديد من الغزوات ومحاولة السيطرة عليها من قبل البرتغاليين والعثمانيين، الذين باءت محاولات سيطرتهم عليها بالفشل.
وفي هذه المدينة الفاتنة، لازال مقر سلاطين “آل عفرار” أو ما يسمى بـ “قصر السلطان” شاهدا حيا على عراقتها وتاريخها المليء بالقصص والحكايات التاريخية المنسية.
شُيد القصر من قبل السلطان عبود بن سالم آل عفرار في العام 685 هجري وتم إعادة ترميمه في العام 1434هجري من قبل السلطان عبد الله بن عيسی آل عفرار نجل آخر سلاطين الدولة العفرارية.
ويتكون القصر الذي تنقل بين جوانحه فريق “قشن برس”، من ثلاثة أدوار وكل دور يحتوي على عدد واسع من الغرف والأجنحة.
ويوجد بداخله مكان مميز يسمى بالمجلس الملبس “مجلس السلطان عبود بن سلطان آل عفرار، وكذلك المسبح وهو الطابق الطرفي.
ويحتوي القصر التاريخي على عدد كبير من الملاحق ضمن سوره الكبير بمنافعه الخاصة للخدم والطباخين والحرس، ويعتبر القصر معلماً تاريخياً لمحافظة المهرة ومقر سلطنة آل عفرار حتى عام 1967.
معالم أثرية
في رحلتنا الثرية وجدنا عدد كبير من المعالم الأثرية من مبانٍ وحصون وأسواق قديمة، ففي الجهة الشرقية لـ “قشن” وجدنا “خور سنجرۃ ” وهي مدينة أثرية يعود تاريخها لما قبل الإسلام، بحسب السكان والمراجع التاريخية، وهي الآن عبارة عن مبانٍ عفا عليها الزمن وجدران وأحجار باتت مهجورة.
ويعتبر الخور من أقدم الأخوار على مستوى الجزيرة العربية، ومرسى للسفن العالمية، وكان السبب الأكبر في ازدها التجارة والحركة الاقتصادية آنذاك.
وكلما تنقلنا من مكان لآخر وجدنا مشاهد وتراث عريق لا تمل العين من رؤيته، وتشتهي النفس معرفة المزيد رغم التعب الذي أصبح يشعر به الفريق بعد سفر شاق والتنقل من معلم أثري إلى آخر.
عند خروجنا من “خور سنجرة” رأينا معلما أثريا آخر، فاتجهنا إليه وكلنا شوقا ولهفة لمعرفة المزيد، ونحن نقترب منه وجدنا على جدران بوابته الكبيرة أسم الحصن منحوت باللغة المهرية ” ظيلم ديون” ” أي من لجأ إليه يكون في حماية، وعندما بحثنا عن أسمه باللغة العربية وجدنا يطلق عليه “حصن بن مسمار”.
واجهنا صعوبة كبيرة عند الدخول من بوابته الوحيدة، وعند محاولتنا الصعود لم نجد له سلالم وإنما حفر صغيرة على الحائط.
ولكي يكون الصعود أكثر تشويقا اقترح أحد الزملاء أن يكون التسلق على هيئة سباق، ومن يفوز بالوصول إلى الدور الأول سيحظى بجائزة عينية.
كان السباق أحد المواقف الظريفة خلال رحلتنا، وعندما أطلق أحد السكان المحليون صافرة انذار السباق بدأ الجميع بالتسلق، لنتفاجأ بسقوط أحد الزملاء إلى الأرض فأعلن الحكم الجائزة من نصيبه.
قررنا بعدها التسلق بدون سباق، حتى وصلنا إلى الدور العلوي الذي يقول عنه أحد الخبراء المحليون إنه عند ترميم الحصن بالفترة الثانية تمت زيادة في الدور العلوي حسب المتطلبات الدفاعية للأسلحة النارية وزيادة الخدمات للحصن من بئر ماء وحمام، وقد قيلت الكثير من الأشعار والقصائد في هذا الحصن الفريد والأثري.
وأضاف أن الحجر التي استخدمت في بنائه قوية، مؤكدا في الوقت ذاته أن الحجر التي بني بها الحصن كانت تحرق في حفرة كبيرة وبعدها تطحن وتخلط مع رمل الوادي وتستخدم مثل الاسمنت.
وعندما خرجنا من حصن “بن مسمار”، كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصرا والشمس بدأت ترسل إشارات الغروب، لكن المخزون الهائل في “قشن” دفعنا لاستغلال الوقت المتبقي، وقررنا المضي نحو معلم آخر يطلق عليه “حصن بن عمروتن” ويطلق عليه بالمهرية “(بيت حنوب).
تجولنا بداخله فوجدناه حصن شاهد على حروب ومعارك قديمة، وقد أنشأ قبل حوالي 300 سنة بحسب المؤرخون المحليون، ويتكون من ثلاث أدوار، الثالث منه بُني خصيصا للحروب، مؤكدين أنه أحد أقدم الحصون في مدينة قشن، وقد شهد الكثير من الحوادث والشواهد التاريخية.
انتقلنا إلى “حصن كوت النخيل” الذي ليس ببعيد عن “حصن بن عمروتن”، والوقت يداهمنا ويسمى هذا الحصن الفريد باللغة المهرية “كوت دنيخل”، ويقع خلف النخيل وسمي بهذا الاسم وبناه السلطان أحمد بن عبدالله بن محمد آل عفرار قبل أكثر من 100 عام.
يتكون الحصن من ثلاثة أدوار في الدور الأول والثاني وجدنا غرفتين كبيرتين وعدد من الغرف الصغيرة، وفي الدور الثالث يحتوي على غرفة واحدة فقط.
اختتمنا زيارتنا لعاصمة التراث والثقافة والسلاطين بالمرور نحو “حصن بيت جيدح” وهو أحد أهم الحصون الحربية، التابعة لقبيلة الجدحي ويقع شمالي مدينة “قشن” وتم بناؤه بعد الحرب العالمية الثانية أي قبل حوالي 80 عاما كما أشارت المصادر التاريخية.
ويعتبر حصن خاص بالحروب حيث لا يوجد فيه سلالم، وعند الصعود إليه يكون عن طريق التسلق، ويوجد للحصن في الطابق العلوي ثقوب صُنعت للحروب تسمى (موجغت).
وعندما حانت ساعة الغروب قررنا مغادرة “قشن” التي لازال في جعبتها الكثير من المشاهد التاريخية والتراث القديم، والتي سيكون لنا معها لقاء قادم وزيارات متكررة.
لمتابعتنا على مواقع التواصل الاجتماعي أضغط هنا
تويتر
انستاجرام
https://www.instagram.com/qishnpress/