“دكسم وفرمهين”..لؤلؤتان فريدتان في الجوهرة اليمنية سقطرى

قشن برس- سقطرى

في الثامنة صباحاً كانت أشعة الشمس تقودنا نحو جمال الطبيعة الفريدة في جوهرة اليمن “سقطرى”، ونحن نسابق الريح أملاً في الوصول باكراً إلى لؤلؤة المحيط الهندي “محمية دكسم” وجارتها الجميلة “فرمهين” غربي الأرخبيل.

قادتنا السيارة من حديبو عاصمة سقطرى، ومع الرياح الموسمية الشديدة التي وصلت سرعتها إلى 60 عقدة في الساعة، كان الشوق لرؤية المحمية الساحرة أسرع، فلم نكن نستطيع الانتظار للاستمتاع بمشهد المحيط الهندي ساحر الزرقة.

بعد أن قطعنا مسافة لا بأس بها، بدأت سرعة الرياح تنخفض، وخفضنا زجاج السيارة لنستنشق الهواء النقي، ونحظى برؤية أوضح لجمال الطبيعة وجوها البديع.

مع اقترابنا بدأت الصورة تتضح، على جانبي الطريق بيئة البادية الخضراء، وشجرة دم الأخوين بشكلها المظلي الرهيب، تخبرنا أن المكان ينسينا مشقة الطريق، ومتاعب المسافات الطويلة.

وصلنا قمة هضبة “دكسم”..أوقفنا السيارة وخرجنا مسرعين كأطفال دخلوا حديقة جميلة لأول مرة، وجدنا أنفسنا وسط الغابات الجميلة والمناظر البديعة، وقررنا أن نستظل تحت إحدى أشجار دم الأخوين لتناول وجبة الفطور، حيث كان الجوع يتسلل لبطوننا، والمناظر الطبيعية الساحرة تفتح شهيتنا للأكل.

شجرة بعمر 350 عاماً

كان الوقت يمضي سريعاً، فالجمال يسرق الزمن، وحديثنا عن سقطرى لاينتهي، إلى أن لفتت نظرنا امرأة تتجه نحونا وفي يدها اليمنى العصا، فيما تحمل اليسرى كيساً بلاستيكياً شفافاً يحوي قربة صغيرة للحليب، وكيساً من “فصوص شجرة دم الأخوين”، وهي المادة ذات المستخلصة من فروع وأغصان الشجرة.

قبل أن تصل إلى مكاننا غيرت وجهتها بعد أن رأتنا، وقفت..واتجهت أنا نحوها..ألقيت عليها التحية باللغة السقطرية، وبلهجة سكان الهضبة بيله ال باعروتكن، فأدارت وجهها وردّت عليّ التحية قائلة: باعروتان  عافيه) وزادت من عندها سؤال عن حال ذوينا وقالت: صاح دشيكي، ودبال، حبهرتن، قلت لها، لاتراءش ماش  عافيه، ال دجوعر، وال دحوبر.

كسر حديثي معها الجليد، وبدأت أمازحها، فقلت: يا جدتي من الأكبر أنت أو هذه؟ وأشرت إلى شجرة متوسطة لدم الأخوين، ابتسمت وقالت: الآن عرفت أنك لست من سكان البادية، أظنك من أهل المدن..، ثم تقدمت نحونا وهي تقول إن الشجرة أكبر منها بخمس مرات، أي ما يقرب من 350 عاماً.

كان الحديث مع المرأة المسنّة مشوقا، وعندما بادرنا لإعطائها قطعة بسكويت وعلبة مانجو رفضت ولم توافق على تناولها، وفجأة لمحت بداخل الكيس الذي تحمله بيدها فصوص شجرة دم الأخوين، سألها صديقي عن قيمة الكيس، فهو يرغب في الشراء، تغيرت ملامح وجهها وقالت: ليس للبيع، ثم استدارت وحاولت المغادرة، أسرعت نحوها لتحكي لنا عن السبب الذي دفعها لعدم بيع الفصوص لنا.

قالت لأنكم ألحيتم عليّ سأحكي لكم السبب، قبل ثلاثة أشهر مررت من هذا المكان وكان تحت تلك التلة ثلاثة رجال، وأنا احمل بيدي نصف هذا الكيس من فصوص دم الأخوين.. جمعتها برفقة أحفادي من عدة أشجار، قال أولئك الشباب الثلاثة إنهم سعوديون..سألوا عن قيمة الفصوص، فأجابتهم أنها بخمسة عشر ألف ريال يمني.

تقول: أعطيتهم الكيس ونظروا داخله وهم يضحكون، وأخرج أحدهم ورقة وقال لي هذه تساوي 18 ألف ريال يمني، وغادروا المكان، ..فأسرعت نحو منزلها مبتسمة وروت لأحد أولادها القصة قائلة: لقد ربحت بيعتي، وأخرجت العملة السعودية، وعندما نظر إليها ابني قال لي إنها 10 ريال سعودي ولا تساوي أكثر من 700 ريال يمني، بسعر الصرف حينها.

بعد أن أكملت قصتها، أخرج صديقي 15 ألف ريال يمني واشترينا منها الفصوص، وقلنا لها لا عليك سيعوضك الله، أجابت “سامحهم الله، لم يظلموني بخدعتهم بل ظلموا أنفسهم”.

بعد أن تجولنا في محمية دكسم قررنا العبور نحو محمية فرمهين، الواقعة في الجانب الآخر، ويفصل بينهما، “وادي دأرهور”، الذي ينبع من أعالي سفوح جبال حجهر ويصب في سهول منطقة  نوجد، ويشتهر هذا الوادي بتخييم السياح الأجانب فيه، حيث يأخذون قسطاً من الراحة عقب التنقل بين هضبتي دكسم وفرمهين اللتين تتواجد فيهما غابات شجرة دم الأخوين.

بينما كانت الشمس في كبد السماء..كنا نواصل السير باتجاه محمية “فرمهين”، انتهى الطريق المعبد للسيارات، وقابلتنا طريق وعرة استمرينا حتى وصلنا المحمية، وفيها أخذنا الصور التذكارية وتجولنا مشياً على الأقدام، وعشنا لحظات جميلة.

العلاج بدم الأخوين

جاء وقت صلاة العصر، وبرفقة أحد الشيوخ في المحمية صلينا، وقبل أن نقرر العودة جلسنا معه لدقائق..سألناه عن فوائد شجرة دم الأخوين، فقال “من الناحية الطبية والعلاجية كان المجتمع يتداوى بها منذُ القدم”.

تحدث لنا عن الأمراض التي بإمكان الشجرة معالجتها، فقال أنها كانت تستخدم في علاج أوجاع الجهاز الهضمي، حيث يُطحن أحد فصوصها ثم يصب في كوب من الماء، وأكثر فوائده علاج مغص البطن.

وتابع حديثه قائلاً: يستخدم فصين منه لعلاج المغص للنساء عند الولادة، كما تعالج الشجرة الأوجاع التي تصيب عيون الأغنام، والحيوانات الأخرى عن طريق خلط الفصوص بقطرات من شجرة أخرى ماؤها حار تسمي “سبره”، ويجري تقطيرها داخل عيون الحيوانات لتتماثل للشفاء.

سألناه: هل سبق أن تعالجت بها، أو أحد من أفراد أسرتك؟..ابتسم وردّ: نعم، نشرب منه لأوجاع البطن بإضافتها إلى ماء دافئ وتذهب منا الأوجاع، كما نكثر من استخدامها في بعض التشققات تحت أصابع القدمين نتيجة المشي بين الوحل أثناء موسم الأمطار.

واصل الشيخ، الذي كان يرعى أغنامه، الحديث قائلاً: كان أبي يضيفه إلى العسل ثم يشربه على الريق، وأتذكر ذلك حينما سألته لماذا تستخدمه باستمرار فأجابني: إنه علاج لتصفية الرئة، وطارد للبلغم، ثم نظر إلينا مبتسماً وقال: هو صديق النساء في الماضي، كانوا يستخدمونه للتجميل، حيث يوضع على الوجه قبل النوم ويغسل عند الاستيقاظ، فيصبح الوجه مشرقاً.

فجأة مسك الرجل الستيني سكينته وعصاه، وقام من مكانه مسرعاً وهو يقول: لقد ألهيتموني عن أغنامي يا شباب، استودعكم الله وإلى اللقاء”.

بعد يومٍ جميل..قررنا العودة إلى الديار، حيث كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصراً..عدنا بعد أن قضينا لحظات جميلة وممتعة في جزء بسيط من جنان أرخبيل سقطرى، التي ستكون لنا معها رحلات مقبلة فيها الكثير من الحكايات المدهشة.

اترك تعليقا