رغم اليتم والمرض.. أسرة “أمينة” تكافح لتزرع الأمل في سقطرى

قشن برس – عفاف سيف

تحت السماء الجذابة المزينة بالنجوم، التقينا الشابة أمينة في حديقة منزلها بأرخبيل سقطرى جنوب شرقي اليمن.

هي فتاة في العشرينات من عمرها، روحها تنبض بالحياة، تحمل ابتسامه لا تغادر شفتيها رغم كل المعاناة التي تجرعتها منذ طفولتها.

إضافة إلى جمال الطقس وجاذبية السماء ونجومها ارتشفنا الشاي وهي تحدثنا عن حكايتها “نحن عائلة مكونة من أم وأب وثلاث بنات، نحب بعضنا بعضاً، ونعيش على قيم التعاون والأمل”.

“كانت أمي مصابة بمرض القلب، فيما أبي هو الذي يقوم بالعمل في المنزل وخارجه، وعلى الرغم من الظرف الصحي الصعب الذي عانته والدتي إلا أنها كانت تصر على مواصلة العمل في التمريض بإحدى المستشفيات من أجل تحسين ظرفنا المعيشي ومواجهة صعوبات الحياة”، قالت أمينة لفريق “قشن برس”.

“كثيراً ما كان يشتد عليها مرضها، ونقوم بإسعافها، لكن لم تكن لدينا القدرة على السفر لعلاجها، واستمرت معاناة أمي طويلاً مع المرض”، تضيف أمينة.

أبي كان العون والسند لأمي ولنا، وقد كان -حسب أمينة- يقوم بكل ما يستطع لمساعدة والدتي لكن الفقر كان العقبة الكبرى أمامه مثل الكثير من أبناء سقطرى.

تواصل أمينة حديثها لـ” قشن برس” عندما صار عمري 12 سنة، مرض أبي.. كان يعاني صداعاً حاداً استمر وقتاً طويلاً. أسعفناه  حينها ولكن دون فائدة، حيث  لم يعرف سبب هذا المرض ، وبعد ثلاثة أشهر من المعاناة تعب أبي كثيرا فلم يستطع القيام من الفراش، فزاد هذا من معاناتنا، فسندنا في الحياة أصبح عاجزاً تماماً.. كانت الدموع لا تفارقنا بسبب هذا الوضع المأساوي”.

أمي تعاني الإرهاق الصحي المتواصل، لكنها كانت تحاول أن تكون قوية،  فهي تعمل وتعود لتساعد أبي.. أما نحن البنات فكانت دموعنا تسبق كلماتنا، أصبحت حياتنا جحيماً، حيث أزعجنا وآلمنا كثيراً أننا غير قادرات على عمل شيء لوالدينا الذين يعانون كل هذه الآلام”.

“لم تتحسن حالة أبي.. كل يوم تزداد سوءا، ما أجبر عمي وجدي على الاقتراض المالي ليقوموا بعلاج والدي خارج سقطرى.. بعد أن ذهب أبي وأمي وعمي لمداواة الوالد دخل في حالة غيبوبة استمرت شهراً، وبعدها لم يصح والدي أبداً .. لقد رحل عنا سندنا وحبنا”.

تواصل أمينة حديثها “حاولت أمي خلق الاطمئنان لدينا وكانت تقول إن  أبي بخير ونحن نصدقها رغم إنه قد مات ودفن..  أمي لم تخبرنا لخوفها علينا فنحن ما زلنا صغيرات..أختي الكبيرة لم تتم 18 عاماً وأنا لدي 12 عاماً، أما أختي الصغيرة فدخلت عامها التاسع لذلك أخفت أمي عنا موت سندنا وقوتنا وحبيبنا وكل شيء بالنسبة لنا”.

وتضيف” عادت أمي وكنا سعيدات بعودتها.  كان الكل حزين من أجلنا لأننا بعد لحظات سنعرف أن أبي غادرنا، لكنهم تركونا نجهز لاستقبال والدينا .نادى أحد الأطفال: لقد وصلوا، فاتجهنا إلى الباب لنستقبلهم فدخلت أمي وعمي وسلمنا عليهما؛ فدخل الكل إلا نحن استمرينا قائمين على الباب ننتظر أبي؛ أرسلنا بعدها أختي الصغيرة للاستكشاف أين هو أبي؟..لكنها عادت لتخبرنا أنه لم يأت بالسيارة، حسب ما أبلغها  أطفال الجيران”.

كانت لحظات صعبة جدا، تشير أمينة” دخلنا على أمي والنساء حولها وعيونها مليئة بالدموع، وكل من حولها حزين.. تعجبنا من الموقف لكنا توجهنا نحوها لنسألها أين أبي؟ لكنها لم تجيب. أجابت عمتي بدلا عنها :أبوكم الله يرحمه في الجنة يابناتي”.

“لم نستوعب شيء مما كانوا يقولون لنا. أصبحنا نصرخ  ونبكي بحرقة ونتهمهم بالكذب.. نعم اتهمنا الكل بأنه كذاب فأبي مازال حياً؛ هكذا كنا نظن”.

أم أمينة لم تتحمل رؤية بناتها في تلك الحالة،  فأغمي عليها وتم إسعافها، ومكثت أسبوعاً كاملاً في المستشفى؛ فيما كانت بناتها يعشن حزنا وبكاء متواصلا لم يهدأ أبداً.

مضت الأيام والشهور والأم تعمل بلا كلل لتعيل أسرتها، لكن مرضها كان يشتد يوما بعد يوم، فكانت أحيانا تعود من العمل في المستشفى كممرضة لتعود إليه مريضة.

كان هناك خوف شديد من قبل أمينة وأخواتها على أمهن، الشخصية الأقرب المتبقية لهن في الحياة.

“استمرت حياتنا..ندرس بجد واجتهاد ونساعد أمي في أعمال البيت، كنا نراها تعمل رغم تعبها وألمها لكنها لم تكل أو تمل، أرادت أن تعوضنا عن أبي، وجاهدت في سبيل أن لا تنقصنا شيئا”.

بعد ثلاث سنوات من موت والدها، تحكي أمينة”ازداد على أمي المرض وأصبحت طريحة الفراش. وهن جسمها فأصبحت غير قادرة على تحمل أعباء الحياة. كانت يومياً وهي في المستشفى تتلقى العلاج؛ لكن الأطباء أخبروها أن عليها السفر خارج سقطرى لتتعالج من مرضها. قام أهالي منطقتنا بجمع التبرعات من أجل سفرها للعلاج خارج سقطرى التي تعاني ضعفاً كبيراً في القطاع الصحي.

سافرت الأم للعلاج في مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت؛ فيما بناتها عصفت بهن الكوابيس، خشية اليتم الآخر، بعد فقدان الأب.

“نحن الآن يتيمات الأب.. فهل سنصبح أيتام الأم أيضاً؟! بكينا ودعونا الله.. تضرعنا له بأن يحفظ أمي.. بعدها تم الاتصال  بنا أن أمي سيطول بقاؤها في مدينة المكلا لأنها ستخضع لعملية جراحية للقلب”.

قام الأهالي في المنطقة بالتبرع مرة أخرى.. هذه المرة من أجل البنات كي يسافرن إلى المكلا لرؤية الأم المريضة.. شعرت البنات بسعادة جراء هذا التكافل الاجتماعي وشكرن الله على طيبة السكان.

تتابع أمينة “وصلنا إلى أمي في المكلا..وبعد أسبوع تقرر إجراء العملية. لقد كنا خائفين، فيما أمي تمنحنا النصائح والتوجيهات والوصايا.. كانت تفكر بنا إذا هي ماتت. لم تهتم أو تخاف على نفسها؛ بل كان همها نحن. أوصت أختي الكبرى بأن تكون أما وأبا لنا، أن نهتم ببعض ونتعاون ونحافظ على أنفسنا”.

“دخلت أمي غرفة العمليات، مرت علينا ست ساعات لم أر أطول منها.. مضت وكأنها سنين. كنا ندعي الله ونبكي بحرقة.. انتهت العملية وأخيرا أصبحت أمسك أذني لكي لا اسمع الخبر الذي أخاف من سماعه “تسرد أمينة.

أردفت “خرج الطبيب وأبلغ أختي بأن العملية نجحت أما أنا وأختي الصغرى كنا نراقب من بعيد.. رأيناها سعيدة.. اقتربت منا وأخبرتنا أن أمي بخير، وكدنا نطير من الفرح، فلن نصبح أيتاما.. الأم ستبقى حبيبتنا وقدوتنا وسندنا.. ستخف معاناة أمي وستبقى قوية..سنتغلب على مصاعب الحياة”.

“عدنا إلى سقطرى وعادت الحياة معنا، ندرس وأمي تعمل.. أخذت دور الأب والأم. حاولت جاهدة ألا نشعر باليتم”.

تواصل أمينة حكايتها “تزوجت أختي وعاشت معنا، وأصبح للبيت رجل هو زوجها؛ أما أنا فما زلت طالبة جامعية وأختي الصغرى طالبة ثانوية..كبرنا وكبرت أحلامنا؛ وكلنا نأمل أن نعوض أمي عن معاناتها، أما أبي فلن أنساه مهما حييت فقد كان نعم الأب”.

“الآن أنا مستمرة في دراستي بكلية التربية قسم لغة إنجليزية، وحلمي أن أصبح معلمة منذ كنت صغيرة، وقريباً سيتحقق..رسالتي هي أنه على الناس أن يتعاونوا، أن يهتموا بغيرهم، فهناك الفقير واليتيم، تفقدوا الناس حولكم فكل واحد لديه قصة وألم”.

اترك تعليقا