وجع اليتم وجحيم زوجة الأب.. امرأة سقطرية تحكي مأساة سنوات طويلة من العنف الأسري

قشن برس-  عفاف محمود

في ليلة ممطرة مصحوبة بالرعود استيقظت الطفلة “مريم” والبكاء يعم المنزل، هرعت نحو أمها لتجدها جثة هامدة قد فارقت الحياة بعد مخاض عسير.

انتظرت “مريم” ابنة الست سنوات طويلاً لترى شقيقها، كانت تضع خدها فوق بطن أمها قبل أن تنام، حباً في الطفل الذي تنتظر مجيئه، لكنه غادر مع أمها.

مريم بالقرب من والدتها والمطر يسقط بغزارة على أرجاء المنطقة، كانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، الطفلة تقاوم النوم وهي تجلس بالقرب من والدتها، بينما كان الوجع يزداد والأم تعيش شدة الألم.

أخذ النوم العميق مريم، وأطلقت أمها أول صرخاتها، تمزقت أعضاء الأم التناسلية بعد أن تعسرت ولادتها، فهي تسكن في إحدى قرى أرخبيل سقطرى الجبلية شرقي اليمن ، حيث لا يوجد أي خدمات صحية ، وظلت الأم المسكينة تعيش الألم حتى فارقت الحياة.

فاقت “مريم” على واقع جديد وحياة أخرى تتجرع فيها مرارة اليتم وجحيم الحياة وألوان الذل والإهانة والضرب والتعذيب.

كانت مريم التي تبلغ من العمر حاليا35عاماً، تستظل تحت شجرة بالقرب من  منزلها  في سقطرى. عندما اقتربنا منها وفي عينيها تتلون قسوة الحياة التي عانتها منذ طفولتها. تعذيب وظلم واضطهاد أسري، عناوين حياة قاسية عاشتها لسنوات طويلة.

أخذتنا نحو مكان بعيد من المنزل حتى لا يشعر بنا أحد، وهناك بدأت تقلب صفحات السنين وتعرج على مواقف الظلم والقهر التي تتعرض لها منذ أن غادرت أمها الحياة وهي في السادسة من عمرها.

“كنت في السادسة من عمري أنعم بحنان أمي وأبي وكذلك جدتي، “عشت تلك السنوات من طفولتي أنعم بالحنان والسعادة، كعصفورة جميلة ملأت الحياة بالفرح والسرور”.

وبينما كنت ألعب بجوار منزلنا نظرت إلى أمي وهي تجري مسرعة نحوي، وضمتني بين أحضانها وهي تردد: أنا حامل، وفي القريب سيكون لديك الطفل الصغير الذي لطالما انتظرناه.

فرحت حينها وشعرت بأني الطفلة الأسعد في هذا الكون، ومرت الشهور مسرعة ودخلت أمي في شهرها التاسع وبدأنا نترقب لحظة الفرح.

وتتابع:” ذات يوم خرج والدي للسوق لجلب احتياجات المنزل، ولأن المسافة بعيدة لم يعد إلا بعد المغرب، وحينها وجد أمي في حالة صعبة ونساء الجيران حولها، بعد أن ازداد وجع المخاض، ونحن في قرية بمنطقة جبلية وعرة لا توجد بها طرق للسيارات، ولايمكن للإسعاف أو الطبيب أن يصل للإنقاذ، وكلما مرت الساعات تسوء حالتها أكثر فأكثر.

واليمن تعد من أفقر دول العالم، تشهد حربا منذ أكثر من ست سنوات، خلفت واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية بالعالم، وبات الواقع الصحي حاليا في تدهور غير مسبوق، حيث تقول منظمة الصحة العالمية، إن نصف المرافق الصحية فقط ما زالت قيد التشغيل.

وحتى قبل الحرب، كانت اليمن تعاني أيضا من تدهور القطاع الصحي وضعف الخدمات الأساسية، فيما العنف الأسري عامل وجع يرهق الكثير من النساء.

“كان الجميع مرتبكاً بعد أن دخلت أمي في حالة إغماء، بينما الوقت يقترب من الساعة الثانية فجراً، وحينها غلبني النوم وحملني والدي إلى غرفة أخرى” تحكي فاطمة.

“استيقظت بعد الفجر وجدتي المسكينة والحنونة التي فقدت بصرها تبكي وتصرخ، سألتها ما خطبك يا جدتي؟ فقالت: ماتت أمك يا صغيرتي..رحلت من كانت ترعاني وتغمرني بحنانها فهي البصيرة والبصر لعجوز عمياء، ثم صرخت وهي تقول، جعلني الله فداها…فقد وقع موتها على قلبي كالصاعقة وأحدث بقلبي جراحاً لن تلتئم، مهما حييت”.

ومنذ سنوات عديدة تفتقر العديد من القرى اليمنية للخدمات الصحية ذات العلاقة بالنساء ، ما يجبر الكثير منهن على الولادة في المنازل، بعيدا عن أي رعاية صحية، في ظل فقر وجهل كبيرين، تدفع ضريبتهما المرأة التي قد تفارق الحياة وهي تنتظر وليدها.

هرولت مريم نحو غرفة والدتها وإذا بالكثير من الناس يتجمعون داخل المنزل وخارجه.

اقتربت من أمي وكشفت عن وجهها المشع بالنور. احتضنت أمي وأخذت أبكي وأصرخ.. حينها اقترب والدي وأبعدني من جثمان أمي” وبدأ المشيعون يأخذونها نحو مثواها الأخير، في مشهد مروع يحكي قصص معاناة الإناث اللواتي يتعرضن لانكسارات وأوجاع نفسية واجتماعية مستمرة حتى اليوم.

تساقطت دموع مريم بينما كانت تتذكر تلك اللحظات العصيبة وتواصل حديثها بالقول:” نعم لقد بكيت وأبكيت حينها من كان حولي”.

فالطفلة مريم حينها أصبحت يتيمة ولا أحد من حولها يواسيها وليس لديها إخوة أو خالة أو أي قريب غير أبوها وجدتها التي قست عليها نوائب الدهر وفقدت بصرها وقواها، ووالدها انشغل بالرعي وطلب الرزق.

تواصل مريم قصتها: “كان والدي ينشغل بعمله طيلة النهار، وجدتي تحتاج إلى الرعاية كل الأوقات وأنا صغيرة لا أستطيع القيام بما يحتاجه المنزل، مما دفعه إلى التردد نحو المنزل ليتفقد جدتي ويطهو لنا بعض الطعام”.

شعر والدي بالتعب والمعاناة، فكان لزاماً عليه أن يتزوج امرأة أخرى تعينه على الاهتمام بأمور المنزل وتفقد جدتي وغير ذلك من الالتزامات التي أرهقته بعد موت أمي.

وبعد مرور عام تزوج والدي من امرأة برفقتها طفل أصغر مني سناً أنجبته من طليقها، ولم تمر بضعة أشهر على زواج والدي حتى لحقت جدتي بأمي وفارقت الحياة.

مستنقع العذاب

تقول مريم: “كنت أحاول أن أتقرب من زوجة والدي لعلي أجد منها بعض العطف والحنان لكنني تفاجأت بقساوة قلبها، وبعد مرور شهر من دخولها منزلنا، بدأت العيش في مستنقع العذاب والجحيم”.

تضيف “كانت تضربني وتتلذذ بتعذيبي، وكلما غادر والدي البيت صباحاً، أرغمتني على القيام بأعمال المنزل ومهمات أخرى تثقل كاهلي، ومرت السنوات وكل يوم أبكي من شدة الشتم واللطم والذل الذي أتعرض له، بينما أرى فتيات الجيران يلعبن وينعمن بحنان الأمهات، وعندما كانت تغيب عني بضعة دقائق أهرب نحو صديقاتي لكي ألعب وأمرح برفقتهن، لكنها تنتبه لي وتسرع نحوي فتعرضني أمام صديقاتي لشتى أنواع اللطم والشتم، وتعاقبني بتنفيذ أعمال أخرى أكثر قساوة”.

تسرد مريم أصنافاً من واقعها المأساوي” لم أكن اشتاق للصباح لأنني أتعرض فيه للعذاب الأليم، وكل يوم لا أحلم سوى بلحظات الغروب لكي أخلد للنوم دون تناول وجبة العشاء من كثر الإعياء والتعب”.

تردف قائلة ” بعد مرور سنوات لاحظ والدي معاملتها القاسية نحوي فحاول مرات ردعها وزجرها، لكنها لا تمر عليها 3 أيام، ثم تعود إلى ممارسة  أسلوبها المعهود وكنت أخافها ولا أستطيع أن أخبر أبي بما يجرى لي منها”.

” بعد أن بلغت عشر سنوات ظهر العداء لي أمام الجميع، الكراهية التي لا أعلم سببها إلى الآن، وهي تعلم أن والدي يخاف علي ويغمرني بالحنان وذات مرة تشاجرت مع ابنتها التي حملتها من زوجها السابق على لعبة، وبدأت تصرخ حتى جاءت أمها التي لم تنتظر حتى أشرح لها ما حصل، بل سارعت نحوي بالضرب، كان يجب علي أن أهرب منها نحو صديقة أمي في منزلها المجاور لدارنا لكي أنجو بجسدي المنهك من التعذيب”.

تتابع مريم” نعم احتميت بصديقة أمي التي لطالما كانت أمي الثانية.. فهي من كانت تطعمني وتكسوني وتقف بجواري في الشدة والرخاء فقد أوصتها أمي قبل وفاتها أن تهتم وترفق بي”.

وبعد لحظات من وصولي قررت زوجة أبي أن تلحق بي وتعيدني نحو البيت، لكن صديقة أمي وقفت لها بالمرصاد وطردتها من منزلها بعد رأت آثار ضربها في جسدي واضحة للعيان.

عاد والدي إلى المنزل بعد غروب ذلك اليوم وسارعت نحو الباب لكي تطلق علي الكثير من التهم من أجل استعطاف والدي.

جاء أبي نحو منزل جيراننا وهناك وجد آثار ضربها وكدماتها على جسمي الضعيف والنحيف، وبدأ يكلمني بلطف وحنان من أجل العودة لكنني انفجرت باكية والخوف والذل منها يخيم على مشاعري.

شاركتني صديقة أمي بالبكاء وأقسمت أنني لن أعود معه حتى يوقف جنون زوجته تجاهي ويصلح اعوجاجها، وسرعان ما تفهم والدي موقفها فهو أيضاً يكن لها الكثير من الاحترام لأنها كانت الأخت والصديقة المقربة من أمي.

قرّر والدي حينها العودة إلى المنزل، وكان الغضب يملأ محياه، ولا أعلم ما الذي دار بينهما حتى خرجت زوجته بعد ساعة من دخوله المنزل نحو منزل أهلها.

عندما عرفت بأنها غادرت من المنزل كنت أشعر بأني ولدت من جديد، فمعذبتي ليست موجودة، “هرولت مسرعة نحو المنزل احتضنت والدي ونمت”، وفي صباح اليوم التالي استيقظت والفرحة بادية على محياي تقول مريم وهي تبتسم: “عندما رحلت زوجة أبي إلى ديارها شعرت بالحرية والطمأنينة”.

ومنذُ ذلك الحين توليت مهام المنزل بمجرد أن يغادر والدي في الصباح الباكر، وعندما يعود بالمساء استقبله بالطعام والشراب، وبدأ يلامس الراحة التي كان يجدها في عهد أمي.

“بعد عامين همس والدي في أذني على استحياء يشاورني في مراجعة زوجته، التي لاتزال في عقده الشرعي، استرجعت حينها كوابيس الضرب والتعذيب والإذلال التي كنت أتعرض لها؛ لكنني أبديت موافقتي على مضض من أجل مشاعر والدي”.

تعلمت خلال العامين الذي ظليت فيها وحيدة داخل المنزل الكثير من التجارب والخبرات وبدأت أشعر بأني كبرت وبدأت أفهم الكثير من نواحي الحياة.

مريم لم تحصل على فرصة التعليم نتيجة الواقع الريفي المأساوي والوضع المعيشي الصعب، في مجتمع ما زال بعض أفراده ينظر إلى تعليم الفتاة بأنه لا جدوى منه ولا أهمية له، وأن المرأة لا عمل لها سوى في البيت، وهي عادات وتقاليد تحكي واقع العنف الأسري ضد الإناث، والتمييز الواضح ضد المرأة من قبل العديد من أرباب الأسر الذين قد يحرمونها حتى من الميراث.

تواصل مريم حديثها “أرجع والدي زوجته بمساعدة بعض الشخصيات، عادت إلى المنزل وحاولت أن افتح معها صفحة جديدة بالمصافحة وبدأت أمارس عملي داخل المنزل كما كنت في الأيام الماضية وأنا التزم الأدب خوفاً من أن تظهر مني بادرة سوء”.

“مرّ أسبوع والأمور  كما يرام، لكنها بعدها بدأت تستعيد سلوكها القديم في ممارسة الإذلال والشتم ودخلنا في سيناريو جديد مليء بالمشاكل والفوضى” هكذا حكت مريم.

ورغم الخوف الذي خلفته سنوات الاستبداد، لكن مريم أصبحت كبيرة ولم تعد تلك الطفلة الذليلة، ولم تستطع زوجة والدها إخضاعها وممارسة هواية التعذيب من جديد.

” كانت زوجة أبي تدخل في مشاكل مع والدي من حين لآخر، وهو يتحملها أملاً منه أن تنجب له طفلاً لكن الأقدار لم تكتب لها وكلما حملت يسقط الجنين في الأشهر الأولى من الحمل”.

“تجاوزت الخامسة عشر من عمري وزوجة أبي مازالت على عادتها تكن الكثير من العداء وتطلق علي الكثير من السب والشتم، وبينما كانت تمارس هوايتها في تعنيفي أقابلها بصمت وأمر، فالطفلة التي كانت تتلذذ بتعذيبها أصبحت تحوي الكثير من الآمال والأحلام التي تتمنى أن تعوض بها سنوات القهر والعذاب”.

منعطف الطلاق

دخلت علاقة والد مريم مع زوجته منعطفاً جديداً وازدادت المشاكل بينهما.

تقول مريم” حينها كنت اقترب من سن السابعة عشر.. انتهت تلك المشاكل بينهما بالطلاق وذهبت زوجة والدي في سبيل حالها”.

” رغم الطلاق لاتزال زوجة أبي تكن لي العداء كما كانت، لكنها لن تجرؤ على تكرار ضربها لي، فتكتفي بالشتم، أما أنا فأصبحت معتادة على أسلوبها، ولا ألقي لها بالاً”.

آمال وأحلام

رغم الأوجاع التي عانتها مريم على مدى 17 عاما؛ إلا أن ذلك لم يكسر أحلامها التي بدأت تتفتق مع انحسار ألم زوجة الأب.

تقول مريم” كل يوم يمر وأنا أكبر وأرى أمل الحياة المشرقة يلوح في الأفق، وأصبحت شابة يعتمد عليها بالقرية”.

تختتم مريم حكايتها ” بعد بضعة أيام من حادثة طلاق زوجة أبي تقدم لي أحد الشباب يطلب يدي من والدي وتزوجت منه؛ وكان نعم الشريك وسكنت برفقته في منزل والدي، وأنجبت منه ثلاثة أطفال بهم أجد السعادة ماثلة أمامي، لكنني كلما ذكرت تلك السنوات أبكي بحرقة بالغة وأتخيل أوجاع الضرب والذل التي ذقتها من تلك المرأة التي عاملتني بقساوة ليس لها مثيل”.

اترك تعليقا