رحلة فاطمة “السندبادية” من سقطرى إلى حضرموت نحو تحقيق حلمها في الدراسة

قشن برس- عمر صالح 

كانت الشمس تميل نحو المغيب، بينما كانت تسابيح رمضان تتردّد في سماء مدينة حديبو عاصمة سقطرى عبر مكبّرات المساجد، والشيوخ في طريقهم إليها يحملون في أيديهم طعام الإفطار؛ خرجت فاطمة من بيتها القريب متّجهة صوب “الميناء”… لتنطلق في رحلة سندبادية محفوفة بالمخاطر .

لم تكن فاطمة وحدها في ذلك اليوم من منتصف شهر مايو 2020، بل كانت جدّتها واثنان من أشقائها يرافقونها، وكان كلّ من يصادفهم في طريقهم يرجو لهم السلامة.

مشى جميعهم عبر طرقات المدينة يرومون “الفيبر” الذي ينقل السكان من الأرخبيل إلى البر اليمني “مرعبة تلك القصص التي كنت أسمعها عن الضياع في بحر العرب، لا سيما أن العشرات من أصحابها لم يظهر لهم أي أثر حتى اليوم، لكنها فجأة تحولت إلى قصة واقعية، كنت أحد أبطالها الذين واجهوا غضب الأمواج وشدة الرياح ثلاثة أيام، من أجل بلوغ الحلم”. تقول فاطمة مستعيدة تفاصيل ذلك اليوم.

 

رحلة البحر الطويلة

“فاطمة” شابة سقطرية تبلغ من العمر 18 عاماً، تطمح لدراسة الطب منذُ سنوات، ولطالما شاركت حلمها مع صديقاتها في المدرسة؛ لكن محافظة سقطرى التي تنتمي إليها لا توجد فيها كليات علمية. إضافة إلى ذلك؛ فالأرخبيل يقبع في عزلة عن محافظات اليمن الأخرى ضاعفتها الحرب وشددت قيودها جائحة كورونا.

وصل الجميع إلى “السفينة” وأصوات الأذان تصدح من كل مكان، قرَّبت فاطمة لجدتها القليل من التمر، وبعدها فطر الجميع، نظرت إلى جدتها وهي ترفع يدها إلى السماء وتدعو ربها أن يجنب أحفادها وكل المسافرين مخاطر البحر، ويسهل لحفيدتها طريقها نحو دراسة الطب؛ لتنفع بذلك أهلها وناسها.

غادرت السفينة نحو وجهتها (المكلا – حضرموت)، وكل المسافرين يرددون تواشيح رمضانية، وجدة فاطمة تحكي للجميع بعضاً من قصص الأوائل، وشجاعتهم في النجاة من المخاطر التي يواجهونها في البحر بأمواجه الغاضبة على قوارب صغيرة؛ معتمدين بذلك على خبراتهم الكبيرة في عبور البحار والمحيطات.

كان الجميع منهمكين مع الروايات التي تحكيها جدتها، بينما “فاطمة” تمعن في التركيز على الصراع الدائر بين السفينة وأمواج البحر المتلاطمة والرياح الشديدة، لكن على الرغم من ضعف إمكانيات السفينة أمام قوة البحر تكون الغلبة لها وربانها الذي اختار طريق النصر وبلوغ المراد.

رأت فاطمة في الإصرار والعزيمة اللذان كان يمتلكهما ربان السفينة رسالة ودرساً يجب أن تستفيد منهما في مواجهة كل التحديات من أجل الوصول إلى حلمها الذي لطالما حدثت به صديقاتها في المدرسة. “وها أنا أركب البحر الذي لطالما سببت لي قصصه الكثير من الخوف والرعب”، تقول ضاحكة.

بعد 17 ساعة من السفر الطويل في عرض البحر، اقتربت السفينة من مدينة “قشن” التاريخية، التابعة لمحافظة المهرة، كان الوقت قرب الظهيرة؛ وهناك قرر الجميع أخذ قسط من الراحة لتناول وجبة الصبوح والغداء معاً؛ فهم في رخصة شرعية.

الجميع مرهقون، والرحلة لم تقطع حتى نصف المسافة، صعدت الجدة إلى السفينة وهي تردد عبارات استياء ضد من تسبب في معاناة أبناء الأرخبيل، وعرَّضهم لمخاطر الموت في بحر العرب الذي يسافرون فيه قرابة ثلاثة أيام؛ بينما لا تتعدى الرحلة جواً 40 دقيقة.

 

غربة داخل الوطن 

واصلت السفينة طريقها، وفي منتصف ليل اليوم الثاني حطت رحالها في ميناء المكلا، واتجهت فاطمة من الميناء نحو أحد الفنادق للمبيت والراحة بعد ثلاث ليالٍ من السفر والمعاناة.

في اليوم التالي بدأت فاطمة برفقة أشقائها البحث عن شقة داخل مدينة المكلا، لأن تكاليف البقاء داخل الفندق باهظة. يبلغ سعرها ما بين 10 آلاف إلى 15 ألف ريال يمني للغرفة الواحدة خلال اليوم. لكن فاطمة تفاجأت خلال رحلة البحث عن مسكن أن المكلا (المدينة اليمنية) لا يتعامل ملاك العقارات فيها إلا بالريال السعودي.

سألت “فاطمة” صاحب مكتب للعقارات: هل لديكم شقة للإيجار بـ 60 ألف ريال يمني؟.. غير أن الرجل أطلق ابتسامة ساخرة وقال لها” هذا السعر كان قبل أكثر من 6 سنوات”. وفي الحقيقة؛ فجميع أصحاب العقارات يتقاضون بالعملة السعودية، وأقل شقة لا تقل عن 600 ريال سعودي، بما يعادل أكثر من 120 ألف ريال يمني.

عادت “فاطمة” نحو غرفة الفندق مع شقيقيها عابسة الوجه، وهي تتمتم بعبارات الإحباط. أجرت مكالمة هاتفية مع والديها لاستشارتهم حول الأمر، وحصلت منهم على الموافقة باستئجار شقة بـ 600 ريال سعودي. عندها شعرت فاطمة بالاستقرار، وبدأت تنتظر موعد انتهاء إجازة عيد الفطر حتى تتجه نحو الجامعة للتسجيل في كلية الطب؛ مستندة على إعلان مسبق للجامعة يحدد يوم 31/مايو /2020 موعد أول أيام التنسيق داخل الجامعة.

 

الطريق إلى الطب

في يوم الـ 25 من شهر مايو أعلنت الجامعة في منشور بصفحتها على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، عن تأجيل إجراءات القبول والتسجيل إلى وقت غير معلوم. وأرجعت القرار إلى الوضع الصحي غير المستقر في عموم البلاد، واستجابة للإجراءات الاحترازية لمواجهة جائحة كورونا.

شعرت فاطمة أنها أصبحت مكبلة خلف قضبان الغلاء في المسكن والأكل والشرب، وحصار جائحة “كورونا”، وكذلك بُعدها عن موطنها الذي لا تستطيع العودة إليه بسبب استمرار إغلاق المطارات، وخوفها من المخاطر المحدقة بها إن عادت عبر البحر.

كانت فاطمة تشعر بصعوبة الامتحان الذي ينتظرها في كلية الطب، فهي بنت “سقطرى” المحرومة من كل الخدمات، وتواجه مدارسها نقصاً كبيراً في أساتذة المواد العلمية، الأمر الذي دفعها لأخذ دورات تقوية في مادتي “الكيمياء والفيزياء”.

وبعد مرور أكثر من شهرين أعلنت الجامعة فتح إجراءات التنسيق والقبول للعام الجامعي الجديد 2020 – 2021م في جميع التخصصات بكليات الجامعة، والتي ستبدأ في الخامس عشر من شهر أغسطس. مشترطة اتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية للوقاية من فيروس كورونا المستجد.

اتجهت “فاطمة” نحو الكلية صباح اليوم المحدد، وأكملت إجراءات التنسيق، وتم إشعارها بأن اللجنة ستبعث لها رسالة عن تاريخ وموعد إجراء امتحان المفاضلة.

كانت الشابة الطموحة تستغل وقتها بالمراجعة وحضور الدورات التي تنفذها اللجان الطلابية حول امتحانات المفاضلة، وبعد أيام وصلتها رسالة من الجامعة تدعوها لحضور امتحان المفاضلة يوم الثاني عشر من شهر أكتوبر في مبنى كلية الطب والعلوم الصحية.

المئات من الطلاب والطالبات يتوافدون إلى الكلية، والجميع يحدوهم الأمل بالقبول، توقف باص الأجرة أمام بوابة الجامعة، خرجت فاطمة مسرعة نحو الكلية، واتجهت نحو قاعة الامتحان، وأنهت امتحان المفاضلة الذي استمر يومان، وآمالها معلقة بحلمها الذي تأمل أن يتحقق بقبولها في كلية الطب.

تأخر الإعلان عن النتائج ما يقارب ثلاثة أسابيع، فاطمة تعيش في خوف من المجهول، التوتر والقلق يطاردانها. في المقابل؛ دعوات الجدة لها بالنجاح لم تتوقف.

 

تعثر

وفي 31 من شهر أكتوبر قررت الذهاب إلى الكلية للاطلاع على النتائج. كانت نبضات قلبها تتسارع خاصة بعد رأت الكثير من الطلاب متواجدين داخل الكلية، ولمحتهم يقرأون كشوفات معلقة من خلف الشبابيك.

سارعت فاطمة نحو المكان وبدأت تقرأ الأسماء حتى النهاية، أعادت قراءة الأسماء مرة أخرى. ثم انسحبت من وسط المكان المزدحم بالطلاب إلى أحد الكراسي بعد أن تأكدت أن الحظ لم يحالفها، وهناك بدأت تجر نفساً عميقاً لعل وعسى أن يخفف عنها هول الصدمة.

تذكرت فاطمة حينها معاناة السفر ورعب البحر وصعوبة الحياة التي واجهتها خلال الفترة الأخيرة وبدأت عيناها تشاركانها وجع اللحظة ومرارة الوجع.

أخرجت فاطمة المنديل من حقيبتها وأخذت تمسح دموعها من على خديها، غادرت الكلية، وبالقرب من البوابة أوقفت باص الأجرة الذي يمر بالقرب من الشارع المتواجد فيه منزلها، وبداخل الباص كانت الأفكار تسيطر على مشاعرها حتى وصلت المنزل.

حاولت “فاطمة” قبل الدخول إلى شقتها أن تغير ملامح وجهها، لكن الحزن المسيطر على عينيها كشف وجعها، وبمجرد أن فتحت لها جدتها الباب انفجرت بالبكاء، وارتمت في حضن جدتها؛ علَّها تجد فيه ما يخفف عنها ألم الصدمة. وكانت جدتها ترْبُت بيديها على ظهر فاطمة تواسيها وتدعو على من ظلمها.

خلال ذلك اليوم استرجعت فاطمة صمود ربان السفينة في مواجهة الأمواج المتلاطمة، وقررت عدم الاستسلام وبدأت التفكر في طريقة مناسبة لتحقيق حلمها؛ لاسيما وأن عدداً آخر من أبناء سقطرى لم يحالفهم الحظ في الالتحاق بالكليات العلمية داخل الجامعة.

 

بارقة أمل

في صباح اليوم التالي خرجت فاطمة نحو الجامعة، وهناك قررت مع مجموعة من الطلاب رفع ورقة احتجاج إلى الجهات المختصة في سقطرى تتظلم فيها على الإقصاء الذي يتلقاه طلاب الأرخبيل داخل جامعة حضرموت، خاصة في الكليات العلمية التي تفتقر سقطرى لمثلها.

اتجه الجميع نحو الشخصية الاجتماعية “ناصر عيفان” وكان حينها متواجداً في مدينة المكلا وأخبروه بقضيتهم، وطلبوا منه إيصالها للجهات المعنية في سقطرى وحضرموت.

خرجت فاطمة والمجموعة التي رافقتها بالقليل من التفاؤل بعد أن وجدو تطمينات كثيرة من الرجل. أخذ عيفان الأمر بمحمل الجد، وبدأ التواصل بمحافظ سقطرى “رمزي محروس” الذي كان له موقف مماثل تعهد فيه بحل القضية في القريب العاجل.

بعد مرور يومين كانت فاطمة تتصفح هاتفها، وتقلب صور ذكرياتها مع صديقاتها وأسرتها في سقطرى، جاءها اتصالٌ هاتفي من كلية الطب يطلب منها الحضور في اليوم التالي لامتحان المفاضلة بين مجموعة من طلاب الأرخبيل على مقعدين في كلية الطب.

وبعدها بلحظات وصل لها اتصال من الشيخ عيفان يخبرها بأن المحافظ نجح في انتزاع مقعدين لأبناء سقطرى في كل تخصص من التخصصات العلمية داخل الجامعة من ضمنها الطب.

كانت “فاطمة” تعد الساعات والدقائق حتى جاء صباح اليوم التالي وعادت من جديد إلى الكلية تقاتل من أجل حلمها، ودخلت في سباق المنافسة على المقعدين.

بعد مرور ساعتين من تسليم دفاتر المفاضلة كانت فاطمة تتناول وجبة الإفطار في كافتيريا قريبة من الكلية، وبعد ان أكملت فطورها عادت إلى إدارة شؤون الطلاب وهناك وجدت حلمها قد انبعث بفوزها بأحد المقاعد لتكتمل فرحتها بالخبر الذي لطالما تمنت سماعه منذُ سنوات.

عادت فاطمة إلى المنزل تحمل بداخلها البشرى والفرح لجدتها التي لطالما شاركتها بالدعاء والصلوات، طرقت الباب وفتحت جدتها كالعادة وعندما لامست في وجهها تقاسيم الفرح رددت الزغاريد قبل أن تخبرها واختتمت حديثها وهي تردد “من سار على الدرب وصل”.

اترك تعليقا