حلاوة النجاح تطمس مرارة المعاناة.. حكاية أول متخرج جامعي في “جزيرة عبد الكوري”

 قشن برس- أحمد الرميلي 

كان الكثيرون يتجهون نحو مهنة صيد الأسماك لطلب الرزق، فيما الشاب “أحمد سالم” يقف محتارا بين مواصلة تعليمه، أو اللحاق برفاقه في سواحل جزيرة عبد الكوري في أرخبيل سقطرى.

اجتاز “أحمد” الصف السادس الأساسي في منطقته بالجزيرة، ليدرك أنه أصبح أمام تحد جديد في حياته، وطريقين لا ثالث لهما: إما مواصلة طلب العلم وهو مبتغاه وحلمه الكبير. أو مصادقة البحر وتعلم مهنة الصيد، وطلب الرزق مع رفاقه وأهل قريته.

تساؤلات كثيرة وظروف صعبة يدرك أنها تنتظره، فهو كما يقول لايزال في مرحلة الطفولة. ومواصلة دراسته تعني الرحيل من بين أهله وناسه للبحث عن مدارس فيها تعليم لكل الصفوف الدراسية. 

وتفتقر جزيرة “عبد الكوري” الواقعة على بعد 120 كم من وسط أرخبيل سقطرى، لأبسط الخدمات الأساسية، فيما التعليم في مدارسها لا يتعدى الصفوف الأولى من المرحلة الأساسية. 

 على الرغم من أن العالم أصبح الآن قرية صغيرة بفضل التكنولوجيا، إلا أن جزيرة عبد الكوري لازالت تعيش واقعا يشبه العصور القديمة، رغم امتلاكها مقومات جمالية، وتنوعاً حيوياً يؤهلها لتكون من أجمل الجزر السياحية.

“أحمد” لم يكن على ما يرام، فالعام الدراسي الجديد بدأ يطرق الأبواب، وبقاؤه في جزيرته التي تمتلك مقومات طبيعية وسياحية وتنوعا بيئيا فريداً لم تأخذ حقها من التنمية والمقومات الأساسية، وحقوقها المسلوبة من قبل الحكومات المتعاقبة. 

يسرد “احمد” لـ قشن برس”، مشواره الطويل في البحث عن العلم، والخوف والرعب الذي كان يرافقه اثناء سفره بعرض البحر ومعاناة الفراق والبعد حتى نال شهادته الجامعية.

بداية الحلم

اتخذ الفتى الطموح قراره بمواصلة تعليمه، وغادر من بين أهله متجها نحو مدينة “قصيعر” التابعة لمحافظة “حضرموت” لاستكمال دراسته الإعدادية. 

ويحتاج المسافر من سقطرى حتى يصل محافظة حضرموت أكثر من 40 ساعة في عرض البحر وأمواجه المتلاطمة.

كانت “كوابيس” البحر ومواقف الخوف والرعب التي تحدث لأحمد والركاب الآخرين خلال السفر من وإلى سقطرى، تمثل قلقا آخر يدفعه نحو التوقف عن مواصلة تعليمه، فهو لا يريد سيناريو الضياع في البحر الذي حصل للعشرات من أبناء الأرخبيل.

بعد أن أكمل دراسة الإعدادية كانت مهنة الصيد تسيطر على أفكاره، وبدأ يفكر في التوقف عن الدراسة، فالأصدقاء من حوله يحفزونه على مهنة الصيد، والعيش معهم في مغامرات البحر، وبين الحينة والأخرى يجدهم يتفاخرون بالمبالغ المالية التي يجنونها مقابل الصيد، وإعالتهم لأسرهم وغير ذلك من الإغراءات التي تقف أمام أحلام الشاب في مواصلة طريق العلم الصعب.

تزوج أحمد وقضى أيام الإجازة في عش الحياة الزوجية، ومشروع العلم لا زال يراود تفكيره بين الحينة والأخرى، لكنه يرى في الزواج مسؤولية أخرى تتطلب الخروج لطلب الرزق.

يعود أحمد كل مساء إلى المنزل مثقلا بالهموم، وحديث زملائه وأصدقائه عن تجاربهم في الصيد، والمبالغ التي يجنونها تطرق أذنيه. يدخل في تفكير عميق، ويجد في العلم مبتغاه، وحلمه الذي لن يتوقف حتى يتحقق. 

صراع العلم والحب

كان هاجس البقاء مع زوجته في المنزل وطلب الرزق يسيطر على مشاعره، لكنه تلقى وعودا جديدة من عمه وبعض إخوانه برعاية زوجته وتوفير مصاريف الدراسة له حتى يكمل دراسته الثانوية والجامعية. فالجميع يفخر به ويرى منه نورا من العلم والمعرفة في منطقة ترزح تحت وطأة الأمية والمعاناة.

في ساعات الفجر الأولى خرج “أحمد” من المنزل، حزم أمتعته ودموعه تتساقط.. فهذه المرة ليست مثل سابقاتها، فقد قرر الرحيل رغم الحب والحنان الذي غمرته به زوجته وأسرته منذُ بداية الزفاف حتى يوم المغادرة.

أطلق إشارات توديعية لزوجته التي كانت تنظر إليه من شباك غرفتها. دقات نبض قلبه تتسارع؛ لكن مشروع العلم تغلب على ملذات الحياة، ومضى نحو البحر.

صعد الشاب الطموح على ظهر السفينة وعيناه تنظر نحو جزيرته الجميلة، وخياله لا يفارق زوجته شريكة حياته التي سوف تعاني أشهرا قادمة من البعد.. فلا اتصالات سوف تجمعهم، ولا مسافات قريبة تساعده على العودة من فترة لأخرى إلى المنزل.

الجزيرة التي يسكنها الآلاف من أبناء الأرخبيل، لم تصل إليها الكهرباء، ولا تعرف أي شيء عن شبكات الاتصالات، ولا يوجد بها حتى مستشفى أو مركز صحي يوفر لها القليل من الإسعافات الأولية. 

بعد أن مرت سنوات الثانوية، عاد الشاب العشريني نحو الجزيرة حاملا معه فرحة التخرج من الثانوية العامة، متناسيا كل معاناة التعب والبعد عن أسرته. 

كانت زوجته قد أنجبت له طفلاً، لتضفي على إنجازه العلمي الكثير من آيات الحب والسعادة في أسرته الصغيرة.

وكلما اتجه نحو أقرانه من أبناء المنطقة، جددوا له حكايات البحر والصيد وجلب المال وسعادتهم بادخار مبالغ مالية يوفرون منها مصاريف أسرهم، وغيرها من الحكايات التي يحاولون من خلالها ضم الشاب أحمد إليهم، والتخلي عن الدراسة وطلب العلم. 

لم يكن يأبه لحديث أقرانه، فهو يدرك أن مسؤولياته أصبحت كبيرة، والمغامرة في الدراسة الجامعية صعوبتها أقوى من المدرسة، فيما تنتظره تجربة جديدة في مدينة أخرى غير قصيعر التي أكمل فيها دراسته الأساسية والثانوية. 

هاجس الجامعة

 استدار أحمد على فراشه ذات ليلة مظلمة بعد أن خلد طفله للنوم، وأخذ يفكر بصمت بضعة دقائق، نظرت إليه زوجته وسألته عن الشيء الذي يسيطر على تفكيره ويجعله يشرد،،، رغم معرفتها بذلك.

نظر إليها والابتسامة تملأ محياه قائلا: هل أعرف من ذلك أنك موافقة على مواصلة دراستي الجامعية؟ كان جوابها: نعم..  أشجعك على ذلك، ولي الفخر أن أكون زوجة أول شاب يتخرج من الجامعة في الجزيرة بأكملها.

لم يفكر طويلا في الأمر بعد التحفيز الذي أطلقته له زوجته، وعزم على الرحيل  نحو جامعة حضرموت بمدينة المكلا، وهناك قرر أن يدرس بقسم اللغة العربية في كلية الآداب. 

خلال سنوات الجامعة تجرع الشاب القادم من جزيرة نائية لم يسبق لأحد من أبنائها أن درس الجامعة ليكون دليلا له للقيام بإجراءات كثيرة بعد التسجيل، من ضمنها التسجيل بالسكن الجامعي. 

بعد تسجيله بكلية الآداب، لم يدر “أحمد” أنه يجب عليه الالتحاق المباشر في السكن الجامعي، وبعد أيام تنبه إلى ذلك، لكنه تفاجأ بامتلاء مقاعد السكن. 

احباط السكن

كان الإحباط يحيط به من كل مكان، وظروفه تزداد تعقيدا. أخذ هاتفه وأجرى مكالمة بأحد زملاء الثانوية وأخبره عن المواقف الصعبة التي يواجهها، وأنه بات يفكر بالتوقف عن الدراسة والعودة إلى الجزيرة، لكن زميله طلب منه المجيء إلى المعهد الذي يدرس بداخله والمكوث معه بغرفته التابعة للسكن الخاص بالمعهد بضعة أيام حتى يجدوا له سكنا.

أجرى زميل “أحمد” الكثير من الاتصالات مع بعض الأشخاص الذين يعرفهم، واستطاع بعد يومين الحصول على سكن لأحمد، وانتقل إليه لتبدأ مرحلة التعليم الجامعي. كان حلمه يدفعه نحو الصبر والتحمل من أجل تحقيق الهدف. 

كان البعد يؤرق أحمد كلما غادر الجزيرة نحو مدينة المكلا، التي يسافر إليها عن طريق البحر لساعات طويلة.  يركب على متن سفينة صغيرة لا تتوفر فيها أدنى مقومات السلامة، وسط أمواج غاضبة ورياح شديدة قد تقودها نحو الضياع الطويل. 

ولأن مخاطر السفر المتكررة من وإلى جزيرته المعزولة محفوفة بالمخاطر، كان أحمد يخرج منها في شهر أكتوبر، ولا يعود إلا في شهر مايو، نتيجة صعوبة المواصلات البحرية من وإلى الجزيرة.  

ومن المعاناة التي واجهها “أحمد”؛ الخروج المحفوف بالمخاطر في الإجازة الفصلية إلى الجزيرة.

خلالها تنقطع الرحلات بسبب الخوف من تقلبات أمواج البحر المفاجئة، ويظل محاصرا لهذا السبب.. تستأنف الدراسة، ويمر أكثر من شهر على ذلك، وهو عالق ينتظر رحلة طارئة تقوده نحو مدينة المكلا ليلحق دروسه الجامعية. 

فرحة التخرج

الأسبوع الماضي أعلن “أحمد” تخرجه من الجامعة بدرجة “البكالوريوس”، ليخطف لقب أول خريج بهذه الدرجة من الجزيرة التي خرج سكانها  يستقبلون نجمهم  المثابر الذي خاض أقسى تجارب المعاناة من أجل إتمام التعليم الجامعي، وفتح طريق للأجيال القادمة للاستفادة من تجربته المميزة.

عاد أحمد إلى طفليه الصغيرين، جاعلاً أحلامهما وأحلام مئات الأطفال في الجزيرة نصب عينيه، بعد أن أصبح صاحب أعلى شهادة في الجزيرة، وأصبحت مسؤولية تعليم هذا الجيل ملقاة على عاتقه.

اترك تعليقا