قشن برس- صالح الحجار
في الطريق إلى الجهة الشمالية لمدينة “حديبو” عاصمة أرخبيل سقطرى، لابد لك أن تمر بالسيارة على طريق منبسط يقودك نحو سلسلة جبلية تنفرد بعباءات أرجوانية من السحب التي تأبى إلا أن تستأثر بالقمم دون غيرها.
إنها جبال “حجهر” ذات السلسلة الفريدة التي ترتفع عن سطح البحر ما يقارب 1500متر، وعلى بعد عشرات الأمتار من العاصمة تقف الجبال شامخة تدهش الناظر إليها، وتشده نحو الصعود إلى قممها الشاهقة، غير آبهٍ بالمتاعب والطريق الوعرة والمسافة التي سوف يقطعها مشيا على الأقدام.
وكلما اقتربت من الجبال ترى بعينيك جبال “حجهر” المكسوة بحلة خضراء دائمة من النباتات والأشجار المختلفة النادرة والفريدة، أبرزها شجرة “دم الأخوين”، فضلاً عن الأشجار المثمرة مثل الليمون الحامض.
كانت الساعة تشير إلى الخامسة فجرا عندما اقتربنا من مناطق “حجهر” الجبلية، ونسمات البحر الباردة ترافقنا في طريقنا، حتى أعلن السائق موعد الخروج من السيارة والبدء بالتسلق في الجبال لكي نتجنب أشعة الشمس والحرارة التي تغزو منحدراتها.
ويقول السكان إن الرياح في جبال “حجهر” تشتد في فصل الخريف، أما واجهتها الشمالية ومنحدراتها فتغزوها الحرارة المرتفعة، أما الواجهة الجنوبية فيكون مناخها في الخريف باردا مصحوبا بالأمطار مع كثافة السحب طوال هذه الفترة.
مناطق سياحية مهملة
وكلما صعدنا في عرض الجبل زاد اشتياقنا للقمم الشاهقة، وفجأة توقف صديقي عن المشي لأخذ قسطٍ من الراحة، مطلقاً بعض التنهدات.
سألته عن سبب تحسره فأجابني قائلا: أليس من الظلم يا رفيقي أن تظل جبال مثل “حجهر” خارج الاهتمام من قبل الحكومة المتعاقبة في بلادنا ولم تجد لها أدنى المقومات التي تتمثل في شق طريق السيارات إليها كونها وجهة سياحية عالمية وفريدة؟.
وتابع حديثة قائلا: ألا تعلم أن السكان المتبقين في جبال “حجهر” مازالوا يحملون احتياجاتهم الغذائية وغيرها على ظهورهم لمدة خمس ساعات من الصعود المرهق.
واصلنا طريقنا بعد نصف ساعة من الراحة والحديث الممتع، بدأت الرياح تعصف بالأشجار، وإن تحدث أحدنا إلى الآخر لا يستطيع سماعه حتى نقترب من بعضنا.
كان رفيقي في الرحلة شيخ قبلي في الخمسينات من عمره، ويحمل على ظهره الغذاء الخاص بنا، وبعض الأغراض الخاصة به.
ومن أجل تجنب شدة الرياح؛ سلكنا بطن أحد الوديان التي تفصل بين سلاسل “حجهر” الجبلية رغم وعورته، صعدنا رويدا رويدا، وبعد ساعتين من الصعود، استدار رفيقي.. وقال لي مبتسماً: “ما رأيك أن نستريح قليلاً؟”، فقد كنت أتصبب عرقا، وملامح التعب والإعياء باديان على وجهي.
أخذنا قسطاً آخر من الراحة، وبينما كنت أستمتع بالمناظر الخلابة والطبيعة الخضراء؛ رأيت العاصمة “حديبو” تعانق الشمس وتبتسم لجبال “حجهر” التي تحرسها كلما حاول الطامعون الاقتراب منها.
استعدنا أنفاسنا بعد الراحة التي لم تستمر سوى بعض الدقائق، ثم واصلنا رحلتنا نحو السلسلة الجبلية للمنطقة، وبدأت “حجهر” تداعب أرواحنا بأجوائها الباردة، وتستقبلنا بفراشها الأخضر النقي لتمسح بذلك عنا مشقة الطريق التي سلكناها منذُ ساعات الصباح الأولى.
كانت السحب هي الأخرى تستقبلنا بالضباب الذي تتزين به جبال “حجهر“، وفي معظم الأوقات تنعدم رؤية تبابها وقممها لكثافة السحب.
أعراش
اقتربنا من إحدى القرى، واستوقفتنا إحدى الآثار التي نقصدها، وثمة مبنى عتيق بالمنطقة لايزال قائما، ولا يرى عليه أي ترميم، وبجواره حيطان مبنية بأحجار كبيرة، القليل منها تبدو صامدة مع مرور الزمن.
تنتشر المباني على امتداد سلسة جبال “حجهر” وتسمى (عرش) بالشين المهملة أي “شَ” تنطق من حافتي اللسان مع التصاق اللسان بالفك العلوي، وهو حرف تختص به اللغة السقطرية واللغة المهرية فقط، وجمع عرش (أعراش).
يندهش الناظر إلى المباني من تصميمها الموحد والمتقن، فهي تتكون من هيكل دائري الشكل، وتصل المساحة الداخلية للمبنى إلى ثلاثة أمتار طولا ومثلها عرضا، ويصل طول بابه ذراعاً ونصف طولا ومثله عرضا، ويتكون بناؤه من أحجار كبيرة ومتينة، وسقفه مثير للدهشة.
يتم سقف هذه المباني بأحجار مسطحة طويلة ومتوسطة في سماكتها، وحينما تنظر إلى سقف المبنى من الداخل فإنك ترى أحجارا متشابكة ومترابطة فيما بينها تغطي سطوح هذه المباني.. لقد تم حياكتها بإتقان ومهارة فائقة، الأمر الذي يفسره بقاء هذه المباني تصارع نوائب الدهر إلى يومنا هذا لتحكي لنا قصص الماضي البعيد، وحضارة تليدة جهلها المؤرخون.
تاريخ عريق
في السنين الماضية علمنا من كبارنا، أن هذه المباني عمرها آلاف السنين، فحينما توجه سؤالا عن عمرها يتحدث المجيب باللغة السقطرية (من زمان دكفريه ) يعني من قبل الإسلام.
وحينما نسألهم عن سبب صغر وقصر باب هذه المباني، يكون الجواب أن المبنى يستطيع مقاومة الظواهر الطبيعية التي تطرأ على الجبال مثل الأعاصير.
والملاحظ أنه في الخمس السنوات الماضية شهدت سقطرى إعصاري “ميج” و”تشابلا” وعصفا بالإنسان والحجر والشجر، وخلعا سقوف ديار مبنية بالإسمنت، بينما هذه المباني ظلت صامدة وستبقى قائمة -حسب قول سكان المنطقة- بسبب أحجارها الكبيرة، وقصرها وسقفها الصخري المترابط والمتشابك والمتين، إضافة إلى هندستها الفريدة وشكلها الدائري المتناسق.
فلم يستطع الإعصار السلب من أجزاء هذه المباني إلا الطين الذي على سقفها فقط، والسكان بدورهم يعيدونه إلى السقف ثانية لأنهم يستخدمونه للحيوانات، كواقٍ لأنعامهم من الحر والبرد، وتحبذه الأبقار هروبا من الذباب المعادي لها.
لغز الحيطان
قرون عديدة مضت، وأزمنة مديدة مرت في هذه المنطقة، لتحكي اليوم بلغة أزلية لا تحتاج إلى ترجمان ولا تفسير، ناهيكم عن وجود حيطان منتشرة في أرجائها قد يبلغ طول أحدها الى أكثر من 50 متراً.. تبدو بشكل متقاطع ومتعامد ومتوازي ومتساوي.
يوجد في عشرات الحيطان مسائل رياضية لأشكال هندسية مختلفة، تحتاج إلى تفسير وتوضيح وتحقيق من قبل المختصين لمعرفة زمنها الحقيقي ومعاني هذه الأشكال.
هذه الحيطان شُيدت في فترة من الزمن على جبال وسهول وهضاب ومنحدرات الأرخبيل السقطري، وهو سر لم يكشف عنه المختصون، ولغز قد يخفي في كنفه حكاية طويلة وعجيبة.
المطر صديق “حجهر”
مع ظهيرة زيارتنا نزلت السحب بكثافة وهطلت الأمطار على المنطقة، وأصبح الجو غائماً كلياً.
والمُلفت أنه مُنذ وصولنا حتى مغادرتنا المنطقة بعد 3 أيام، لم تتوقف الأمطار، وازدادت كثافة السحب.. وهذا هو طقس منطقة “حجهر” في الخريف، حيث يسمى بالسقطرية ( علهل وزييك).
وعندما قررنا مغادرة المنطقة؛ كانت السحب تغطي حجهر وسط أمطار مستمرة.. قمنا بلف هواتفنا بأكياس بلاستيكية حتى لا تتلف من الأمطار.
وصلنا إلى الجهة الشمالية من سلسلة جبال “حجهر” بعد قرابة ساعة، حيث تكشف السواحل هناك الجو المشمس المصحوب بالرياح.
تنفسنا الصعداء وسط الطقس الدافئ.. نزلنا المنحدر الجبلي ووصلنا إلى حديبو بعد رحلة فريدة إلى هذه المنطقة الأثرية السياحية التي هي بحاجة ماسة للخدمات العامة والطرقات، والاهتمام الحكومي الشامل.