في محمية “حومهل” السقطرية.. تموت الأشجار وتكتسي الطبيعة لون الحزن

تقاوم المحمية الفريدة، ابنة الـ 20 عاماً، لتظل تزين جمال أرخبيل سقطرى، رغم الكوارث البيئية التي غيّرت من لونها، والتحديات والتهديدات التي تواجهها من بني البشر، ولامنقذ يأتي ليعيد إليها جمالها الرباني.

محمية حومهل السقطرية، أعُلنت محمية نباتية من قبل السلطات اليمنية في عام 2000م.

وتقع المحمية الحاضنة لأشجار اللبان في منطقة مومي شرقي أرخبيل سقطرى، تلفها المناطق الجبلية شرقاً، ويؤانسها غرباً جبل حمادروه وسهول منطقة شاتاء، ومن الشمال منحدرات حالة الساحلية، وجبل طيف جنوباً.

كان موعد اللقاء مع جميلة سقطرى يوم الثلاثاء 18 أغسطس 2020، أردنا أن نتحدث إليها..أن نسمع نداء الطبيعة ونرى عبث البشر.. أردنا أن نعيش يوماً مع أشجار اللبان (امعيروه باللغة السقطرية)، حيث واجهت تلك الأشجار غضب الأعاصير والرعي الجائر.

تجنباً لشدة الرياح الموسمية اخترنا أن تبدأ انطلاقتنا نحو “حومهل” في الواحدة ظهراً، أخذنا أحد الأصدقاء بسيارته من طراز”جراند فيتارا” حتى نتغلب على وعورة الطريق، تركنا العاصمة حديبو، وتوجهنا نحو المحمية النباتية التي تبعد نحو 60 كم، قرابة 20 منها طريق ترابية غير معبدة تمر عبر وادي منبعه.

في الماضي كانت الطريق المؤدية إلى محمية حومهل أكثر وعورة، تشتد وعورتها في طلوع العقبة من الوادي، لا يستطيع أحد استخدام السيارات الصغيرة، يأخذ السياح مركبات كبيرة ومرتفعة باعتبارها الوسيلة الوحيدة للوصول إلى المحمية، وعندما يتضرر الطريق من الأمطار الغزيرة، يضطر السياح ومعهم الأهالي للصعود سيراً على الأقدام لمسافة تقارب 2 كم.

كان الجو مشمساً والرياح تمانع حركتنا وتزداد كلما قطعنا المسافة نحو جهة الشرق، بعد أن قطعنا ثلثي المسافة وصلنا إلى الطريق الترابي في بطن الوادي، وعدنا للسرعة البطيئة، ومعها استقرت أعيننا على حجم الأضرار التي تعانيها “حومهل”.. فاجأنا مشهد مربك لم نعتد عليه، قطع علينا حديثنا عن المحمية النباتية وأهميتها السياحية، كنا نتمنى أن تكون الأضرار التي حلّت بها سهلة وبسيطة لا تفقدها قيمتها الطبيعية والنباتية، باعتبارها إحدى المحميات النباتية المعول عليها سياحياً.

ونحن في وسط الوادي.. استوقفنا مشهد رجال القبائل وكثرة السيارات وضجيج الأصوات، وعند جدار بُني بالحجر لا يصل ارتفاعه لمتر كان الطريق الذي تمر منه السيارات مغلقاً بحاجز حديدي وحوله حراسة مشددة..لم تكن بأيديهم أسلحة، عندما اقتربنا سألني السائق: ما هذا؟..قلت تقدم وسنعرف. توقف السائق خوفاً على سيارته طالباً مني الترجل واستئذانهم بالعبور، أو العودة إن لم نجد الإذن.

تقدمنا قليلاً فأشار أحدهم إلينا بالعودة، اضطررت للترجل وتقدمت نحوهم فعرفني أحدهم وتقدم نحوي وتصافحنا وظهر على وجهه التعب والإعياء..سألني إلى أين تذهب ياصالح، ومن معك في السيارة؟..، قلت له إلى محمية حومهل النباتية للتنزه، ولا أحد بالسيارة إلا مالكها الأستاذ الشيباني وهو يعرفه..هل لديكما مشكلة في عبورنا؟ قال لا تفضلا، لكن لا تسلكا بطن الوادي..اسلكا حافته اليسرى، وهو طريق حسن لكما.

نادى حراس البوابة فرفعوا الحاجز الحديدي، وعبرنا بعدما ألقينا عليهم السلام. قرأنا فيهم ملامحهم التأهب لمعركة قبلية بكل شراسة، وعرفنا بعد ذلك أن نزاعاً قبلياً على الأرض والمراعي، كما هي عادة البدو والرعاة، كان وراء ذلك التجمع، حتى أننا وجدناهم على الحال نفسه عند العودة قبيل المغرب.

ابتعدنا عنهم، ترافقنا الطريق ومشاهد تكشف الأضرار الفادحة التي أحدثتها الأعاصير في أرخبيلنا البيئي، ولاسيما الأشجار الطبيعية النادرة، والزراعية كالنخيل التي جرفتها السيول حتى أصبحت الأودية خالية من النخيل، لم نكن نتوقع هذا الدمار الكبير.

أنا ورفيقي لم نزر محمية حومهل بعد تعرضها لإعصاري ميج وتشابلا، فقط كنا نسمع الأخبار من عامة الناس، توقعنا أن يكون حديثهم مبالغ فيه، وكان الصورة الجميلة للمحمية مطبوعة في أذهاننا كما عرفناها سابقا.

حينما وصلنا أسفل العقبة المستحدثة (الطريق الجديد)، أخرجت هاتفي لأوثق شيئاً مما أرى، في الصعود كانت يداي تمسكان بالهاتف وتواجهان شدة الرياح، خلال نحو 8 دقائق التقطت الكثير من المشاهد، وصلنا للقمة، وأنا أنظر إلى الطريق القديم..الوعر والمعقد، ذات المنظر المخيف، حيث يضطر السياح للصعود مشياً ويصعد السائق وحيداً، وكم مرة تعرضت السيارات للسقوط إلى أسفل الوادي، لكن دائماً ما ينجو سائقوها حيث يقفزون ويتركون السيارة تلقى مصيرها لوحدها.

قبل أن نصل المحمية بنحو 2 كم، شاهدنا الكثير من الأشجار تنام على الأرض، تحدثها عما واجهته، إذ لا أحد يمكن أن يسمع منها أكثر من التراب الذي نامت عليه، تذكرنا أحاديث الناس عن الأضرار التي لحقت بالمحمية، وصلنا المحمية ووقفنا في مواقع مدمرة تماماً، الأشجار تموت، وما بقي منها لا يقوى على المواجهة وحيداً، تنظر الأشجار التي تصارع من أجل البقاء وترى مثيلاتها قتلى فتفقد الأمل في الصمود.

شاهدنا كارثة بيئية، أشجار اللبان الكبيرة والضخمة تركت النظر إلى السماء واستلقت على الأرض،..واحةٌ جميلة وروضة طبيعية ونفيسة، وثروة بيئية وهبها الله لنا باتت مهددة بالاختفاء، تبادر إلينا أهمية أن تقوم المنظمات البيئية بتقديم الدعم لإحاطة المحمية بالأسلاك لمنع دخول الحيوانات وإيقاف الرعي الجائر، حينها يمكن أن تعود تلك الجذوع للنمو.

لمدة ساعة ونصف كانت جميع الصور التي التقطت توحي بالأسى، لا شيء في المحمية يتحدث غير لغة النهاية، الأشجار اليابسة والأرض التي يأكلها القحط الشديد، وألوان الحزن تكتسي أشجار اللبان الناجية، لكننا نغادر “حومهل” في طريق عودتنا، والأمل في أن تقوم الجهات المعنية بواجبها في إعادة الحياة لما تبقى من جمال الطبيعة في المحمية.

اترك تعليقا