كنوز غير مرئية: اللغة المهرية.. شاهد حي على حضارات الجزيرة العربية المندثرة

قشن برس- رأفت أحمد الحمادي

في أقصى شرق اليمن، تحتفظ قبائل محافظة المهرة بلغة تعتبر من أقدم اللغات الحية في العالم، حيث تشير الدلائل إلى أن جذورها الضاربة في التاريخ تعود لما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة.

وتتميز اللغة المهرية بخصائص صوتية وتركيبية فريدة، تضم أصواتاً لا وجود لها في اللغات الأخرى، كما طورت نظام كتابة خاصاً يعتمد على الحروف العربية مع إضافة رموز خاصة تعبر عن هذه الأصوات المميزة.

وأثارت هذه اللغة اهتمام الباحثين والمستشرقين على مدى عقود، حيث اختلفوا في تصنيفها بين من يراها امتداداً للغات العربية الجنوبية القديمة مثل الحميرية، وبين من يقربها من العربية الفصحى، وآخرين يرون تشابهاً مع اللغات السامية الأخرى مثل العبرية والجعزية.

ويعود أصل متحدثي هذه اللغة إلى قبائل مهرة بن حيدان التي تنتسب إلى قبائل قضاعة وحمير، وقد انتشرت مع تحركات هذه القبائل وامتدت إلى مناطق واسعة خارج اليمن.

ولا تقتصر مناطق استخدام اللغة المهرية على اليمن فقط، بل تمتد إلى مناطق في سلطنة عمان خاصة في محافظة ظفار، كما تتحدث بها بعض القبائل في الربع الخالي والمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى وجودها في الإمارات العربية المتحدة بين قبائل المهرة المنتشرة هناك.

وتكمن أهمية هذه اللغة في كونها تمثل جسراً بين الماضي والحاضر، حيث تحتفظ بمفردات وتعابير تعكس التراث الثقافي والحضاري للمنطقة، مما يجعلها مرجعاً مهماً للباحثين في مجال التاريخ والأنثروبولوجيا واللغويات.

حماية اللغة

يشدد الباحث في جامعة عدن، عبدالله عمر، على أهمية المحافظة عليها من الاندثار وتناولها بالدراسات وتسجيلها صوتيًا، مشيرا إلى أنه “سواء قلنا لهجات أو لغات فهي جديرة بالاحترام السقطرية والمهرية والجبالية، فهذه لها ألفاظ وفيها فقط تغير صوتي”.

ويضيف في حديث ل”قشن برس “، أن “المهرية والسقطرية تمثلان تاريخ للعربية الجنوبية وتمثلان بقايا من اللغات السامية وهي بحاجة إلی المحافظة عليها وإرجاعها إلی أصولها”، مؤكدا في الوقت ذاته أن “احتفاظ أهل المهرة و أهل سقطری بهذه اللغة يعد دليلا علی قوة في ألفاظها وسياقات لايمكن للغة أن تظل مستمرة في البقاء إلا لأنّها أدت لأهلها عملية التواصل”.

كما أكد الباحث أيضا “على اهمية الاهتمام بهذه اللغة ونشر الدراسات التي قامت عليها من قبل الإعلام كي يظهر للناس ما تكتنزه هذه اللغات أو اللهجات من ثروة لغوية”.

من جانبه، يقول المؤارخ اليمني في مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث محمد عبدالعزيز جعفر، إن “اللغة المهرية إحدى لغات جنوب الجزيرة العربية الست الباقية وهي المهرية، والسقطرية، والشحرية، والهوبيوت، والحرسوسية، والبطحرية، هذا التقسيم بحسب رأي الباحثين المستشرقين الذين يعدون الهوبيوت لغةً مستقلة، بينما يرى باحثون آخرون أنها إحدى اللهجات المهرية، ويطلق المستشرقون على هذه اللغات مصطلح لغات جنوب الجزيرة العربية الحديثة؛ وذلك لأنه تم اكتشافها حديثًا بعد اكتشاف اللغات السامية والهندأوروبية”.

ويتابع في حديث ل” قشن برس”، “تعد المهرية والسقطرية والشحرية من أقوى هذه اللغات وجودًا وانتشارًا، المهرية والسقطرية في اليمن، والشحرية في الجزء الغربي من سلطنة عمان في محافظة ظفار”، لافتا إلى تناولها من قبل اللغويين والمؤرخين قديما مثل الهمداني.

خصائص لغوية

يلفت المؤرخ جعفر الانتباه لما قاله العديد من الباحثين المحدثين عن المهرية من أنها لغة مستقلة ومنهم د. فهمي حجازي و د. عامر بلحاف، وغيرههما؛ وذلك لما لها من أصوات لغوية، وأبنية صرفية، وخصائص لغوية وأنظمة وقواعد تميزها عن غيرها من اللغات، بينما شطّ البعض الآخر وذهب مذهباً بعيدا حينما عدها لهجة من اللهجات، ونحن بوصفنا أبناء هذه اللغة وناطقين بها نؤيد ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول، لما للمهرية من أنظمة وأبنية وقواعد تفردت بها عن غيرها.

وتابع قائلا :”هناك تقارب كبير في لغات جنوب الجزيرة المهرية، والسقطرية، والشحرية، من حيث الجوانب الفونولوجية ( الأصوات) والجنوب المعجمي ( المفردات ) إلا إن كل لغة تختلف عن الأخرى من حيث البناء المورفولوجي وتركيب الجمل ..مشيرا الى ان واقع المهرية اليوم ليس كواقعها بالأمس، إذ كانت بالأمس منعزلة عن المحيط الخارجي؛ وهذا الانعزال ساعدها على أن تحافظ على بقائها دون أن يمسها أي تهديد أو تحدٍّ”.

تحديات متنامية

مع التطور والانفتاح والتمدن والنزوح فقد أصبحت المهرية -وفقا للمؤرخ ذاته- تواجه العديد من التحديات، كما أصبح تواجدها مهددًا أكثر من ذي قبل ولم تعد تضمن سلامتها وقد أصبح البعض من أبنائها الناطقين بها يستبدلون بأصواتها أصواتًا عربية وبمفرداتها مفرداتٍ عربية، وعلى الرغم من اعتزاز المهري بلغته العربية لغة القرآن، إلا إنه يفضل المحافظة على لغته التي تمثل هويته وإرثه اللغوي الذي ورثه من أجداده.

وأضاف “أبناء المهرة أخذوا على عاتقهم القيام بخطوات جبارة تسير نحو الحفاظ على لغتهم وأجلّ ما قاموا به في هذا الصدد إنشاء مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث، فقد أخذ هذا المركز على عاتقه مهمة دراسة اللغة المهرية دراسة علمية رصينة من حيث الجوانب الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية وما تحويه من موروث أدبي وثقافي، والقيام بمشاريع توثيق وحصر مفرداتها، وتنظيم المؤتمرات والندوات، وغيرها من الأعمال التي تهدف إلى خدمة وتوثيق تاريخ وتراث ولغة المهرة”.

 

 

 

 

 

اترك تعليقا